الخلاصة:
قدم علماء الفقه إلى الأمة الإسلامية من خلال "فقه العمارة" ، أو مايعرف في كتابات فقهاء المغرب بنوازل البنيان ، دليلا واضحا على تفاعل الدين الإسلامي مع شتى مناحي الحياة ، وفي دراستنا هذه تقدم نموذجا تطبيقيا يبين مدى تفاعل الفقه مع العمارة المدنية من خلال الآثار الباقية في مدينتي القاهرة و رشيد ، وقد اخترت ماتين المدينتين كإطار مكاني للدراسة لكونهما تضمان معظم الآثار الإسلامية الباقية بمصر، أما الإطار الزمني فاخترت العصرين المملوكي والعثماني لكون معظم الآثار الباقية بالمدينيتين تعود إلى ذلك الإطار الزمني .
وقد قصدت من هذه الدراسة تقديم معالجة جديدة تخرج عن نطاق الدراسات الآثارية التقليدية التي تهتم بالتوصيف دون التحليل ، وبالميتي كمنشأة معمارية دون البحث عما وراء العمارة بطرح أسئلة حول هذه المنشأة أو تلك، تدور في محيط لماذا؟ .
وواجهت في فترة البحث وجمع المعلومات صعوبات شتى منها ندرة المراجع والمصادر المطبوعة التي تتحدث عن "فقه العمارة" ، وأبرز المصادر المتداولة في هذا المجال كتاب "الإعلان بأحكام البنيان لابن الرامي" والذى حظى باهتمام العديد من الباحثين فنشر ثلاث مرات : الأولى : في محلة الفقه المالكي التي تصدرها وزارة العدل بالمغرب ، وذلك في الأعداد
۳،۲
،4. ذي القعدة ، 14۰۲ه ، وهي الطبعة التي اعتمدت عليها .
والثانية : في تحقيق لعبد الرحمن الأطرم ، في رسالة ماجستير قدمت إلى معهد القضاء العالى بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1403ه ، وقد رجعت إلى هذا التحقيق في بعض النقاط التي استوفاها المحقق .
والثالثة : دراسة أثرية معمارية للكتاب انجزها الدكتور محمد عبد الستار عثمان.
وتحولت بين صفحات بعض المخطوطات التي لم يسبق نشرها ، والتي تتعلق موضوعاتها بأحكام البنيان مثل : كتاب الجدار لعيسى بن موسى التطیلی ، ورسالة فتح الرحمن في مسألة التنازع في الحيطان لمحمد بن حسين بن إبراهيم البارودی ، ورسالة في الحيطان لصنع الله بن علی الحنفی . |
ولم أكتف بهذا ، بل تطلب الأمر الغوص في كتب الفقه المختلفة والتي تحوى بين أسطرها بعض أحكام البنيان ، وإن كان بعضها قد أفرد نسولا لأحكام البنيان كالمعيار المغرب للونشريسي . وخلال رحلة البحث هذه لم أستطع أن أتبين ملامح هذه الأحكام بصفة واضحة إلا بالربط بينها وبين القواعد العامة للفقه الإسلامي ، وهو ماتطلب منی حضور دورة تدريبية في أصول الفقه) نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة وحاضر فيها الدكتور على جمعة أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر .
ثم جاءت دراسة أستاذ الدكتور حسن الباشا "المنهج الإسلامي في العمارة ، مقدمة في فقه العبارة" لتضع يدي على الموضوع بصورة واضحة، ولتكون مفتاحا رئيسيا لي في مجال تطبيق الأحكام الفقهية على المنشآت المعمارية الباقية ,مدينتي القاهرة ورشید .
وتمثل دراسة عبد القادر أكبر عن عمارة الأرض في الإسلام ، مرحلة هامة في بحال الدراسات الفقهية التي تتعلق بعمارة الكون ، وهي من الدراسات التي استفدت منها كثيرا في هذا البحث .
ولم تقتصر مصادر هذه الدراسة على مجرد قراءة المصادر الفقهية لدى الفقهاء المسلمين ، بل حاولت أن أقف على الاختلافات بين هذه المصادر ، طبقا لفظروف المكان، سواء أكان مصر ، أو المغرب ، وكذلك ظروف الزمان ، وهو ما يستدعي أن نأخذ بحذر الأحكام الفقهية المختلفة عند التطبيق على الآثار الإسلامية في القاهرة ورشيد . وهذا يقف دليلا على اختلاف رؤية الفقهاء لقضايا عمرهم ، فيجب قبل تطبيق أحكام الفقه المالكي على العمارة في مصر استيعاب مصطلحات أهل العمارة بالمغرب ، ومقابلتها .مثيلتها في مصر، وليس أدل على ذلك سوى اختلاف ورود اسم البوابة لدى الفقهاء ، فقد استخدم ابن تيمية (وقد عاش في دمشق) كلمة "شرع" للدلالة على باب في طريق غير نافذ ، أما ابن الرامی من تونس فقد استخدم كلمة
درب" ليعني بها بوابة في سكة غير نافذة ، ويقول ابن عابدین (مصر) إن البوابة "في عرف الناس اليوم اسم للباب الكبير الذي ينصب في رأس السكة أو المحلة". أما الونشريسي (المغرب) فقد ذكر نازلة تدل على أن كلمة درب تعني عضادة الباب . والظاهر أن انتشار كلمة الدرب لتعني البوابة على الطريق المخصش لجماعة معينة أدى مع الزمن إلى استخدامها لتدل على الطريق ذاته، فالكثير من الناس الآن ، يعتقدون أن الدرب هو الطريق ، لأن الكثير من الكتاب استخدمها كذلك . ونستنتج من هذا أن
كتب الفقهاء حملت لنا الكثير من المصطلحات المعمارية أو المتعلقة بمحركية العمران نی المجتمع المسلم .