الخلاصة:
الفن هو لسان الحياة و الدليل الناطق عليها، فإنما وجد الإنسان على سطح الأرض وجد الفن معه، وللفن مظاهر متنوعة بدأت في أول الأم لتسد حاجة الإنسان في معيشته، ثم تطورت لتؤدي دورها في تربية الذوق السليم و إشاعة البهجة في النفوس إلى أن أصبحت دروبا من التعبير الروحي والوجداني والعقلي؛ لتنظيم العلاقة بين الناس بما يكفل الكمال والانسجام بينهم (۱۹) وأمة الإسلام كغيرها من الأمم لها فنون تميزها عن الفنون والطرز الأخرى ولكن الحق يقال ان العرب قبل الإسلام لم تجمعهم دولة واحدة توحد عقيدتهم ومنهجهم في الحياة وتهنئ لهم حالة من الاستقرار الذي يحتاج إليه نمو الحضارة وازدهارها، ولكنهم كانوا في الطريق إلى ذلك، فلقد كان لهم معتقدات دينية ولكن من الصعب أن تعرف مدى تأثير هذه المعتقدات الدينية على حياتهم وفي توجيه سلوكهم و أيضا في قنونهم. وتستطيع أن نقول إن الشعور الديني العرب في الجاهلية لم يكن قد اهتدى إلى موضوعه الحقيقي وملا ثبات له في النفوس، وكل هذا يعتبر من الأسباب التي جعلت الآثار والتماثيل الخاصة بعصرهم قليلة هذا بالإضافة إلى أن حياة العرب في الجاهلية كانت قائمة على الرعي و التجارة، وهما يتطلبان التنقل من مكان الآخر والحركة الدائمة، أما الفنون التشكيلية فترتبط أساسا بالمكان والاستقرار، وعلى هذا لم تظهر لهم أعمال فنية تشكيلية تحسب لهم، ولكنهم تفوقوا في فن الشعر الذي بلغ حدا كبيرا من النضوج قبل البعثة المحمدية، فلقد عكس هذا الفن صورة الحياة التي كان يحباها العرب قبل الإسلام، وهذه الظاهرة تعتبر ظاهرة غريبة، بمعنى أن تتخلف كل الفنون إلا لنا واحدا، وهو أن الشعر حيث نجده يزدهر ويرقي ويرجع السبب في ذلك إلى أن عاطفة المكان لم تكن قوية لدى العربي، بل عاطفة الزمان فقط هي التي كانت قوية، وبذلك تستطيع أن نقول أن الشعور بالزمان كان أكثر تسلطا على وجدان العربي من المكان، أي أن الزمان عنده هو الحقيقة الثابتة المطلقة على عكس المكان المتغير المحدود (۳۱). | والشعر فن زمالي لا يحتاج إلى مكان لكي يستقر فيه مثل بقية الفنون المختلفة، فهو الفن القابل أن ينتقل مع الإنسان أينما ذهب دون أن يتكلف مشقة في حمله، ومن ثم نجد أن الفن الشعري كان أنسب أنواع الفن لطبيعة حياة العرب قبل الإسلام من جهة و أقرب التعبير عن وجدان العربي من جهة أخرى، وهكذا تنتهي الحقب قبل ظهور الإسلام دون أن تظفر من العرب إلا بهذه البلاغة القولية التي تمثلت في فن الشعر الذي اهتم به العربي ليحل محل القلق الناتج من التغير المستمر المائل له في كل ما تقع عليه عينه، وإنه وجد في الشعر قبل الإسلام وسيلة للهروب من هذا المتغير واستشراقا للمطلق، وقد تمثل في المكان المظهر المتغير المحدود النهائي، أما الزمان فهو المطلق غير المحدود اللانهائي، وقد كان هذا المحدود النهائي هو مصدر قلقه وخوفه، وبه ارتبطت فكرة الموت فالحياة إذن منتهية بالنسبة لهم، فلم ينشأ لديهم فن مثل فن التصوير أو الفنون التشكيلية، أو الفنون المعمارية إلا بعد ظهور الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية.