الخلاصة:
يُعدّ ماضي العمارة بعض ماهيتها وبعض تجلّيها الحاضر، فالعلاقة المقترحة بين جديد العمارة وقديمها توجب أن نقف على ما يريد الجديد أن يستعيده من القديم، وما يمكن أن يبلغه في حالة مفارقته. لعلّ العودة إلى الماضي لا تتوقف عند مجال التذكير والعبرة بإطار العمارة التقليدي، بل أنها في الكثير من الأحيان تكون بمثابة الوسيلة الناجعة لحفز العلاقات في الحاضر، والعمل على تركيز وجودها في ماضي الجماعة، كأصل فاعل غير مستحدث ليكون حضور الماضي وظهوره انطلاقاً مع محفزات الحاضر.
وعليه، تعتبر العمارة التقليدية بالجنوب التونسي (سكن الواحات نموذجا) طاقة تشكيلية كامنة في معمار مُتستّر. بناءٌ يكتنه الواقع بكلّ تشابكاته وأبعاده المتعالقة، فأصْنَفَ المعمار التقليدي سكنا، وطريقة عيش، وأظهر قدرة على التكيّف مع المحيط، بأن توافق شكل الصّروح مع محيطها والحاجيات الاجتماعية والمطالب الوظيفية.
لعلّ سبر هذا الأثر تحليلا وجمع تشكيلاته توثيقا أمر مستطاع لكن السؤال المطروح: ماذا بعد القراءة والحصر والجمع والتحليل والتوثيق؟ لقد تبيّن ومن خلال معالجة اشكالية التعامل مع الأفضية السكنية التقليدية، أن نجاح تقييم الواقع الحاضر لهذه المساكن يكون بتحديد مواطن الخلل ومعالجتها. فخطة إعادة التأهيل لا تهدف فقط إلى إعطاء الحلول بل توفّر إمكانات تستقري ما يمكن له أن يكون بعد تطبيق هذه الحلول. فما تركه الأجداد يُعدّ ارثا حضاريا وجماليا وفلسفيا وابداعيا والمجهود العلمي والتقني لا يمكن له أن يلغي بحق ما خلّفه الأجداد من تجارب وخبرات، كَونَ البيئة التي جاءت وتشكلت عبر خبرات متراكمة لأجيال عديدة لم تتشكل عبثا، بل كانت هناك قوانين وأعراف تحكم المنظومة الحضرية بكافة تفاصيلها. إن النظرة لهذا الإرث تتخطى الحنين إلى الماضي، إلى التمعن فيه برؤى واقعية.
في الزّمن الحاضر، أين السّكن المُحدثْ من الذّاكرة؟ ما مدى امكانية تفعيل المخزون الذاكراتي على محامل الحاضر؟
استفهامات تُحدّد الإشكالية الرئيسة المؤثثة لورقتنا العلمية والمتمثلة في استنتاج الكيفية التي نستطيع عبرها تكوين تصوّر شامل لفهم الفكر الذي نتج عنه ذلك المعمار، من أجل إقرار إمكانات أخرى في التعامل مع هذا التراث المعماري كصرح ذاكراتي حي. معمارٌ حقّق مفهوم الاستدامة في الزمن الماضي ليكون شاهدا على توافق السكن والساكن ولا يزال. العمل البحثي هو دعوة مفتوحة إلى التمكّن من الماضي، في إعادة استحضاره وإيوائه وتجديده. ومن هنا تتولّد الرّغبة في العمارة المحدثة أن تحتفظ بالقديم وتستعيد في الجديد ما هو قديم ليتجدّد ويستديم. إن العلاقة المقترحة بين جديد العمارة وقديمها توجب أن نقف على ما يريد الحاضر أن يستعيده من الماضي. ومهمّة عناصر الأبنية المحدثة أن تتبنّى أحقية التواصل مع ما هو تقليدي على أن يبقى هذا الاقتراح نسبي إذا ما انعدم انسجام هذه المفردات مع بقية المكونات الفراغية والوظيفية للمبنى الملتصقة به