الخلاصة:
كان عمر بن الخطاب نموذجا عملية لمفاهيم وقيم الحضارة الإسلامية، التي هي عبارة عن حلقة أساسية في سلسلة القيم والحضارات الإنسانية، بل جاءت لتثبيت القيم والمثل العليا للحضارات التي سبقتها، لا لتلغيها أو تمحوها.
وطبق أمير المؤمنين عمر هذه القيم في العهدة العمرية التي أعطاها لأهل بيت المقدس (إيليا).
فذكر أن العهد لأهل إيليا تعظيما لشأن مدينتهم التي لها في الإسلام مكانة دينية عظيمة، وشمل الأمان أربعة أشياء هامة النفس والمال ودور العبادة الكنائس وشعائر العبادة (الصلبان)، بل وأكد على حرمة الكنائس، وعدم هدمها أو انتقاص جزء من المكان التابع لها "حيزها"، وأكد الأمان على حرية العقيدة التي كفلها الإسلام لأهل الكتاب والديانات الأخرى فقال... ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.
وطلب عمر في كتاب الأمان من أهل المدينة إخراج الروم ومن يتبعهم من الأجناس الأخرى، وهم كانوا سلطة احتلال، إلا من أراد البقاء منهم في إيلياء فلا يجبر على تركها مع الالتزام بما يلتزم به أهل إيليا، وفي الوقت نفسه فتح الباب أمام أهل إيليا لمن يريد منهم الرحيل مع الروم، ولهم الأمان حتى يصلوا إلى بلاد الروم
وهنا نلاحظ وجود فرق بين أهل المدينة وبين الروم، ولم يحدث اندماج وتزاوج رغم أنهم على ديانة واحدة، ولكن اختلاف المذهب فرق بينهم، بالإضافة إلى سياسة الروم المتشددة لهم، واضطهادهم لأهل المدينة في كثير من الأحيان.
ويتضمن الكتاب نقطة هامة تدل على تسامح المسلمين، وهي أنه لن يجبي منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم، فلا يكون فيه مشفة عليهم، بل إن من أراد الخروج من المدينة، والرحيل عنها، له أن يبقى حتى يحصد حصاده، فلا يضيع جهده وتعبه، ثم يرحل بعد ذلك.
وقد دلت هذه الوثيقة على أصالة التسامح الإسلامي من جانب، وعلى المكانة التي لبيت المقدس من جانب آخر، ولعل التاريخ لا يذكر إلى جانب صفحة هذه الوثيقة صفحة أخرى من تسامح الأقوياء المنتصرين مع المحاصرين المسلمين على النحو الذي ترد عليه بنود هذه الوثيقة، والذي لا نظير له في تاريخ الحضارات.
والتزم المسلمون بكل شروط الوثيقة نصا ومعنى، واعتبر المسلمون شروط هذه الوثيقة واجبة دينية، وأول من التزم به الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، فعندما كان يتفقد آثار المدينة مع البطريرك صفرونيوس أدركته الصلاة، فطلب منه البطريرك أن يصلي بها، فهي بيت من بيوت الله فاعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإن فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم، وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة، وكانوا قد قدموا له عند بابها بساطاً يصلي عليه - وإنما صلي في مكان قريب منها.