الزجـــــــاج الإسلامـــــي

Abstract

عرفت البشرية صناعة الزجاج منذ آلاف السنين وتراكمت لديها خبرات ثرية في كيفية الاستفادة من مادة توفر فيها من الخصائص والمميزات ما لم يتوفر في غيرها ، فأنفقت البشرية بسخاء من الجهد والوقت والمال في سبيل تسخير هذا الفن وظيفيا وجماليا ، فعقدت له المؤتمرات الدولية المنتظمة، وأسست من أجل الزجاج اللجان والجمعيات والنقابات والروابط الدولية ، وأقامت له المعارض الدائمة والمؤقتة، وبنت له المتاحف المتخصصة ، وألفت فيه المخطوطات ثم نشرت عنه الكتب والبحوث والقواميس، واهتمت المعامل المتخصصة بصيانته وترميمه، ولما صار مصدرا من مصادر الدخل القومي في بعض العصور والأمصار نشطت الشركات التجارية العالمية في الدعاية له والإعلان عنه، وأرسلت مندوبيها إلى مدن العالم الكبري لتسويقه، كما رصدت الجوائز ومنحت النياشين والأنواط لمن يبدع الجديد في مجال الزجاجيات حتى عرفت المراكز العالمية لصنع الزجاج أكثر من خمسين ألف نوع من أنواع المركبات الخاصة بخلطات الزجاج، لكل منها خواص معينة تتفق ونوع الزجاج المطلوب ، وكان ذلك حتى عام 1389 هـ/1969م ، وربما تضاعف ذلك العدد في الخمسين سنة الماضية. فالزجاج علم واسع وفن أنيق وصناعة متعبة ومواد خام غير متوفرة بنفس الجودة في أي مكان، فضلا عن أسرار الصنعة التي تلقن شفويا وعمليا للحفاظ على الفوارق التنافسية، كذلك الشروط التي يجب توافرها في مواضع وهيئات أفران الصناعة وأدوات الصناعة والصناع وجودة المنتج، وإلا يعدم المنتج ومن أنتجه أحيانا، ولا يصرح بإنشاء المصنع من أصله إلا بعد موافقة السلطات عدا الأفران الأهلية البسيطة. وتعددت طرق صناعة وزخرفة الزجاج ما بين القطع البارد ، والضغط على القالب، والكبس، والنفخ الحر، والنفخ في القالب، والسحب ، وزخرف الزجاج بالقالب وبالحز ، وبالحفر بأنواعه، وبالإضافة ، وبالبريق المعدني ، وبالتذهيب ، وبالمينا، كما تم تعشيق الزجاج المسطح والملون في الجص والرخام والخشب والحجر والمعدن. وهيأت الخواص المتعددة التي تميزت بها مادة الزجاج فرصا كثيرة جدًا لاستخداماته في أشغال ثابتة أو منقولة، مدنية أو حربية ، فاتسعت الإبداعات في الأشكال والطرز والوظائف ، فكان من استخداماته الثابتة الشمسيات والقمريات ، ومرايا الأبواب والدواليب الحائطية ، والقصور الزجاجية ، والفسيفساء الزجاجية ، وشواهد القبور الزجاجية. أما استعمالاته المنقولة فهي وسائل الإضاءة من مشكاوات وقرايات وتنانير وثريات وفوانيس وشماعد ومسارج وفنيارات وممارق وقناديل. وأدوات المطبخ من أكواب وكؤوس وفناجين وأباريق ودوارق وقوارير وقناني وقماقم وسلطانيات وأطباق وصواني وطشوت وجرار وقدور وطاسات وغير ذلك. وأدوات الزينة والتجميل من مزهريات ومرشات عطور وعلب حفظ أدوات الزينة والتجميل ومكاحل وأساور وتعاليق وخواتم وخرز. والأختام والمكاييل والأوزان (الزجاج المختوم) والأدوات والأواني الطبية والصيدلانية كالمحاجم وكاسات الحجامة وأجهزة التقطير والتبريد والتكثيف والمدقات والأقماع والأحقاق وعلب السعوط وحاويات المواد الطبية ، والدوى والمحابر، والعدسات والمرايا العلمية والبوصلات والنظارات والساعات، والنرجيلات وأنابيب التدخين (البايبات) والتماثيل وقطع الشطرنج وجلل النفط وثقالات الورق وغير ذلك. نعم لقد وصلنا من المصنوعات الزجاجية الإسلامية ما يعد بالملايين في بعض أنواعه وما يعد بعشرات الآلاف في البعض الآخر مما تحتفظ به معروضات المتاحف العالمية ومخازنها ، أو مما تزين به أرضيات وأسقف وجدران ونوافذ آلاف العمائر الأثرية الإسلامية. واتسعت المساحة المكانية والزمانية للمدروس فشملت العالم الإسلامي على مر العصور، وتعددت مراكز صناعته في كل مصر من الأمصار وفقا لأحوال وظروف تاريخ صناعته وتأثرها بالظروف السياسية والتجارية والأمنية. إنه فن ترك أثره على أعرق حضارتين تحيطان بالعالم الإسلامي هما حضارة الصين وحضارة أوربا، حيث اعترف المستشرقون والمتسغربون بأثر الزجاج الإسلامي على نظائره الصينية والأوربية ، بما درسوا من وثائق ومعلومات وبما كشفت عنه الحفائر من معثورات. وبعد كل ما تقدم بشأن الزجاج لم تفرد له دراسة مستقلة حتى الآن باللغة العربية تلملم أطراف الموضوع وتوجه أنظار الباحثين إلى أوجه القصور فيه، وذلك بنشر المجموعات الكثيرة التي لم تنشر بعد وتعريف الباحثين بأماكن حفظها ثم حثهم على استخدام الأدوات العلمية الحديثة في دراسته كالتحاليل الكيميائية المعملية إلى جانب المناهج التقليدية كالوصف والمقارنات وغيرها، وإني لأرجو أن أكون قد وفقت في هذا الكتاب لسد فراغ في المكتبة العربية ومهدت الطريق لدراسات مستقبلية أخرى في هذا المجال.